السودان- صراع القوى العالمية على أرض المعركة

لقد أفرزت الحرب المشتعلة في ربوع السودان ظرفًا استثنائيًا واستقطابًا عنيفًا، لا يقتصر على الخصومات السياسية الداخلية، ولا على الصراع الدامي بين الجيش وقوات الدعم السريع فحسب، ولا حتى على التنافس المحتدم بين القوى الإقليمية المحيطة، بل امتد هذا الانقسام والتنازع ليجعل السودان، في مستهل العام الثاني للحرب، بؤرة صراع بين القوى العالمية المتدافعة في المنطقة.
استغلت قوات الدعم السريع، التي أسسها ورعاها عمر البشير، وبدعم قوي من أجهزة أمن نظام الإنقاذ وقيادات المؤتمر الوطني، التراكم الهائل للدعم العسكري واللوجستي المكثف الذي حصلت عليه في أواخر سنوات حكم الإنقاذ، وكذلك خلال الفترة الممتدة بين أغسطس/آب 2019 وأكتوبر/تشرين الأول 2021، وهي فترة حكم تحالف الحرية والتغيير مع المؤسسة العسكرية، وتمكنت خلالها من نشر قواتها المسلحة بمختلف أنواع الأسلحة في معظم المدن والبلدات السودانية.
بموافقة وتسهيل من البرهان الذي كان يهدف إلى ضمان بقائه في السلطة، قامت قوات الدعم السريع ببناء كيان شبيه بالدولة الموازية داخل السودان. كما وسعت نطاق علاقاتها الخارجية ليشمل مجموعة فاغنر في أقصى الشرق، بالإضافة إلى جهات أخرى داعمة تهدف إلى تقسيم السودان والسيطرة على ثرواته وموارده، بينما كانت بعض الدول الأوروبية تسعى من خلال علاقاتها بالدعم السريع إلى استخدام قواتها في مكافحة تدفقات الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا.
في المقابل، شهدت قدرات الجيش السوداني تدهورًا ملحوظًا، وتوقف التجنيد الإجباري في صفوف القوات البرية عمدًا، وذلك بسبب مخاوف نظام الإنقاذ في سنواته الأخيرة من انقلاب الجيش عليه. هذا التزايد المطَّرد في قدرات الدعم السريع وانتشارها الواسع دفعها إلى تحديد التوقيت والمواقع المناسبة للانقضاض على الدولة السودانية، أو ما يسمونها "دولة 56"، بهدف إقامة دولة جديدة للميليشيات على أنقاضها، بمختلف المسميات التي تظهر أحيانًا على لسان قادتها ويتحاشونها أحيانًا أخرى. هذا المخطط الخارجي الذي سبق وأن سعى لتقسيم السودان وتوسيع نطاق حروبه، وجد في هذه القوات أداة طيعة لتنفيذ مآربه الخبيثة.
ومع اندلاع الحرب، استولت قوات الدعم السريع على منازل وممتلكات المواطنين في الخرطوم ودارفور والجزيرة، وتسبب ذلك في تشريد وتهجير أعداد كبيرة من السودانيين الذين نجوا من جحيم الحرب، بينما فقد عشرات الآلاف أرواحهم في مختلف المدن، وفقًا لشهادات المنظمات الأممية. لقد انتشر الفساد بكل صوره وأساليبه، واُرتكبت جرائم اغتصاب بشعة ضد النساء، وتمت عمليات سلب ونهب واسعة النطاق للممتلكات.
شهدت ولاية الجزيرة فظائع مروعة على يد قوات الدعم السريع التي انتهكت حرمة مناطق واسعة منها، واستهدفت المناطق الزراعية على الرغم من خلوها التام من أي مراكز أو وحدات عسكرية.
تذبذبت الأوضاع العسكرية خلال العام الأول من الحرب، واستغلت قوات الدعم السريع دعم حلفائها السياسيين الذين تشكلوا من رموز النظام السابق، ومجموعات من قوى الحرية والتغيير التي كانت تتأمل في العودة إلى السلطة تحت حماية الدعم السريع، بالإضافة إلى بعض قادة ورموز القبائل الذين يحلمون بالهيمنة على حكم السودان وربطه بمجموعاتهم العرقية والإثنية.
أما الجيش السوداني، الذي خرج من حالة الإضعاف التي مارستها ضده حكومة الإنقاذ، فقد استطاع امتصاص الصدمة خلال الأشهر الأولى من الحرب، وتحسس مواطن قوته ليكتشف أن قوات الدعم السريع تحيط بعدد من مواقعه، فقام بإعادة تمركزه واستفاد من حالة الغضب الشعبي المتزايد تجاه الدعم السريع. كما تنبه الجيش السوداني إلى ضرورة إحداث توازن في الدعم الخارجي، خاصة فيما يتعلق بإمدادات السلاح، فتم إدخال الطائرات المسيرة لتعزيز سلاح الطيران، وتوسيع نطاق العلاقات العسكرية الخارجية.
عام التدخل الخارجي السافر
مع بداية العام الثاني للحرب، أخذت الأحداث منعطفًا جديدًا يعكس التدخل الخارجي الصريح في الحرب، وذلك من خلال إمداد الأطراف المتحاربة بالأسلحة والعتاد والطائرات المسيرة. لم تعد قوات الدعم السريع تخفي الإمدادات التي تتلقاها جهارًا نهارًا عبر مطار مخصص لذلك في تشاد، كما لم يعد الجيش يخفي علاقاته العسكرية مع إيران وروسيا. وهكذا أصبح السودان، مع بداية العام الثاني للحرب، ساحة مفتوحة للصراع العالمي، وازدحمت الساحة الجغرافية بأكملها بمعطيات جديدة:
وسعت روسيا نطاق انتشارها بشكل مكثف في وسط وغرب أفريقيا، وحاصرت الوجود الفرنسي وطردته من معاقله التقليدية، فمن جمهورية أفريقيا الوسطى إلى النيجر وبوركينا فاسو ومالي، تراجع النفوذ الفرنسي بشكل كامل من المنطقة التي تعتبر واحدة من أغنى مناطق أفريقيا بالموارد الطبيعية، وتوالى خروج الوحدات العسكرية والشركات الفرنسية تباعًا من تلك الدول التي بدأ يظهر على مسرح الأحداث فيها الدب الروسي والتنين الصيني.
إن الدعم الروسي لقوات الدعم السريع عبر مجموعة فاغنر بالتدريب والتسليح يعود إلى تراجع البرهان عن تخصيص قاعدة عسكرية لروسيا على البحر الأحمر، كما وعدهم البشير من قبل، ولكن هذا الدعم لم يحقق هدفه بسيطرة الدعم السريع على السلطة. ومع ذلك، فإن المصالح المشتركة للطرفين أعادت الجيش السوداني وروسيا من جديد إلى التحالف، خاصة بعد انقلاب البرهان على شركائه في أكتوبر/تشرين الأول 2021، ليحقق كل طرف مبتغاه: دعم روسي للجيش السوداني بالسلاح، مقابل إقامة القاعدة العسكرية الروسية على البحر الأحمر.
إذا تحقق الدعم الروسي للجيش السوداني، فمن المرجح أن ترجح كفته، وسوف يحقق ذلك أمنيات السودانيين الذين تشردوا بين الولايات والبلاد، ولكن الجيش المنتصر سيتمدد على حساب التحول الديمقراطي بدعم روسي، وسيعود السودان بسبب التدخل الروسي لمواجهة عقوبات غربية
إن التمدد الروسي – الصيني في وسط وغرب أفريقيا، والخطوات المتسارعة للدب الروسي نحو التواجد العسكري على البحر الأحمر، دفعت أمريكا إلى إعادة ترتيب تمركزها في أفريقيا، فتوجهت نحو كينيا كمدخل جديد إلى وسط وشرق أفريقيا مع مراقبة دقيقة للسودان وإثيوبيا والصومال، وعين أخرى على باب المندب. وقد تضمن العرض الأمريكي لكينيا الشهر الماضي بأن تكون حليفًا متميزًا من خارج الناتو، مع تقديم دعم كبير للطيران العسكري بحجة دعم وإسناد الجيش الكيني، وهو ما يعتبر مدخلاً لوجود عسكري أمريكي كبير يتخذ من كينيا مقرًا له.
سيكون هذا المقر القاعدة الرئيسية للجنود الأمريكيين الذين سينسحبون من معاقل قديمة في أفريقيا، خاصة النيجر التي سيغادرها الجنود الأمريكيون في سبتمبر/أيلول (بعد أربعة أشهر). وسيتخذ الوجود العسكري الأمريكي من منطقة واجير في الشمال الشرقي لكينيا قاعدة له، وهي منطقة الكهوف القديمة في منطقة التماس مع الصومال.
لقد نبهت حرب السودان إيران إلى إمكانية ترسيخ وجودها في البحر الأحمر، وذلك بتعزيز وجودها في السودان عبر دعم الجيش السوداني بالطائرات المسيرة، وقد استجابت لطلب السودان، وبدون مقدمات انتقلت العلاقات السودانية – الإيرانية من حالة العداء التي أحدثتها حكومة الإنقاذ مع إيران إرضاءً لدول الخليج، إلى مورد أساسي للطائرات المسيرة للجيش السوداني حتى قبل إعادة افتتاح السفارات بين البلدين. هذه هي لغة ومصالح الحرب والتمدد الذي تخشاه أمريكا.
أدرك الجيش السوداني أن المخطط الأمريكي يهدف إلى إضعافه من خلال استمرار الحرب، وذلك بالاعتماد على استمرار إمدادات السلاح لقوات الدعم السريع، والتي تعلم أمريكا يقينًا كافة تفاصيلها، خاصة تلك التي تعبر تشاد وتتغاضى عنها حتى يستمر نزيف الدم وتضعف الدولة وجيشها. ففي حال تقدم الدعم السريع واحتلالها مدينة أو ولاية، تغض أمريكا الطرف عن ذلك، بينما تدعو إلى التفاوض ووقف الحرب حال تقدم الجيش.
إن ثروات السودان الظاهرة والخفية، وأراضيه الخصبة المترامية الأطراف، ونيله المتدفق بالعطاء، تغري التدخلات الخارجية في حال تمزق جبهته الداخلية وضعف مؤسسات الدولة. وهذا ما آلت إليه الحال منذ السنوات العشر الأخيرة لحكم الإنقاذ، حيث قابل التوجه الأمني المتسلط لحكومة الإنقاذ الرهان على الخارج والترتيب معه من قبل عدد من الجماعات والأحزاب السياسية، مما أتاح للخارج التوغل باستخباراته وأذرعه والتغلغل في مؤسسات الدولة والتخطيط لتفكيكها وتثبيت البديل.
المستقبل قاتم.. حتى مع انتصار الجيش
هكذا انفتحت المعطيات الجديدة للحرب في السودان على تدخلات عسكرية واضحة مع بداية العام الثاني للحرب، والذي يتوقع أن يشهد تحولات نوعية في إيقاعها:
إن الدعم الروسي للجيش السوداني، إذا تحقق، فمن المرجح أن يرجح الكفة لصالح الجيش السوداني، ليس فقط بالإمدادات العسكرية للجيش، وإنما أيضًا بتحييد الحدود الغربية للسودان مع ليبيا، والتي تساهم أيضًا في توريد المرتزقة لقوات الدعم السريع. وهذا سيؤثر بالتأكيد سلبًا على الإمدادات الأخرى القادمة من تشاد وأفريقيا الوسطى والنيجر.
وسيؤدي ذلك إلى تحقيق آمال السودانيين الذين تشردوا وسلبت ممتلكاتهم ونزحوا بين الولايات والبلدات وحتى إلى الخارج، بالعودة إلى ديارهم، بل وسيكونون السند والدعم والتشجيع والاحتفال بانتصار القوات المسلحة.
إلا أن هذا سيتمدد الجيش على حساب التحول الديمقراطي، إذ ستشعر قيادة الجيش أن ما بذلته من جهد يستحق عليه أن تظل مهيمنة، وهو الأمر الذي يجد الدعم والتأييد من الروس الذين لا يحبذون الحكومات المدنية المنبثقة عن الديمقراطية. وشيئًا فشيئًا سيحتاج الجيش لدعم سياسي لتعود من جديد صيغة الولاء المدني للعسكر.
إن تراجع الخيار الديمقراطي سيضر بمستقبل السودان، وسيعيد إنتاج أزمة الحرب من جديد، فقيادة الجيش الحالية وعلى رأسها البرهان هي التي مكنت لقوات الدعم السريع في السلطة، وفتحت لها المعسكرات، وشهدت تدريب وتخريج مجنديها ووافقت على استئثارها بالثروات وعلى رأسها الذهب، كل ذلك ليتشبث بالسلطة مبتعدًا عن مقتضيات المرحلة الانتقالية، وهي إقامة الانتخابات ليقول الشعب كلمته ويحدد حكامه.
ونتيجة للتدخل الروسي، سيواجه المجتمع السوداني عقوبات غربية تعيد من جديد العقوبات والمقاطعات الغربية للسودان في التسعينيات، وسيستغل الغرب كل أدواته حتى تلك الموجودة وسط القوى السياسية، لإجهاض تمدد النفوذ الروسي في السودان، مما سيفتح البلاد على صراع من نوع آخر.
أما المحيط الإقليمي فسيراوح مكانه بين صراعات الكبار: روسيا وأمريكا، والأخيرة يشغلها الوضع في فلسطين ما بين المطرقة والسندان، وعلى مقربة من الانتخابات حيث تزدحم الأجندة وتتطاول قبل هم السودان. وقد بدأ تأثير الحرب في السودان يتسرب إلى أوضاع جيرانه الداخلية، خاصة جنوب السودان وإثيوبيا وتشاد. بينما ظلت مصر على موقف واحد داعم للقوات المسلحة، وهو الحال كذلك بالنسبة للسعودية وغالبية الدول العربية.
إن القوى السياسية السودانية منقسمة بين مجموعة همها العودة للسلطة بأي ثمن أو تحالف، وتستوي في ذلك بعض قوى الحرية والتغيير والمؤتمر الوطني، ومجموعة أخرى مؤمنة بالخيار الديمقراطي وضرورة إقامة الانتخابات، إلا أن الصوت العالي الآن هو للمجموعة الأولى التي تشد المشهد يمنة ويسرة. إن رهان بعض القوى السياسية على الخارج أضعف من تأثيرها على المشهد، وأفقدها المبادرة المطلوبة وتقديم الحلول للمشاكل. ولا سبيل للسودان في أن يمضي إلى استقرار إلا بالتحول الديمقراطي والاحتكام للشعب في انتخابات حرة نزيهة، ودولة يقودها المدنيون، ويحرس حدودها وأمنها جيش قومي قوي موحد، لا وجود لسلاح خارجه، وقوات أمنية وشرطية نظامية مهنية.
أما إذا تنازل البرهان ومجموعته عن شهوة السلطة والحكم كما فعل سلفهم سوار الذهب، رحمه الله، واكتفوا بالمجلس العسكري الانتقالي بمهامه في حفظ حدود البلاد وبسط الأمن تمامًا في ربوعها، وتشاوروا مع القوى السياسية ليسلموا الحكومة الانتقالية للمدنيين، وتحدد مهامها بإقامة الانتخابات خلال أقصر فترة ممكنة، فعندها فقط سيَسلم السودان من عواقب النزاعات والتدخلات الخارجية.
